فصل: المسألة الأولى: ليست الرياسة منع وحدها لأهل الكتاب عن قبول الإسلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (نسخة منقحة)



.فصل الأمم قبل البعثة:

ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان أهل الأرض صنفين: أهل الكتاب وزنادقة لا كتاب لهم وكان أهل الكتاب أفضل الصنفين، وهم نوعان: مغضوب عليهم وضالون.
فالأمة الغضبية هم (اليهود) أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلة الأنبياء وأكلة السحت- وهو الربا والرشا- أخبث الأمم طوية، وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة عادتهم البغضاء، وديدنهم العداوة والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفه، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة؛ بل أخبهم أعقلهم، وأحذقهم أغشهم، وسليم الناصية- وحاشاه أن يوجد بينهم- ليس بيهودي على الحقيقة أضيق الخلق صدورا، وأظلمهم بيوتا، وأنتنهم أفنية، وأوحشهم سجية، تحيتهم لعنة ولقاؤهم طيرة، شعارهم الغضب ودثارهم المقت.
فصل:
والصنف الثاني (المثلثة) أمة الضلال وعباد الصليب، الذين سبوا الله الخالق مسبة ما سبه إياها أحد من البشر، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء؛ بل قالوا فيه ما {تَكادُ السَمَواتُ يَتَفَطَرنَ مِنهُ وَتَنشَقُ الأَرضُ وَتَخِرُ الجِبالُ هَدا} فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها أن الله ثالث ثلاثة، وأن مريم صاحبته وأن المسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة، وجرى له ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن، فدينها عبادة الصلبان، ودعاء الصور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان، يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا فدينهم شرب الخمور وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة، والحلال ما حلله القس والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب، وينجيهم من عذاب السعير.
فصل:
فهذا حال من له كتاب وأما من لا كتاب له: فهو بين عابد أو ثان، وعابد نيران وعابد شيطان، وصابئ حيران يجمعهم الشرك، وتكذيب الرسل، وتعطيل الشرائع، وإنكار المعاد وحشر الأجساد، لا يدينون للخالق بدين، ولا يعبدونه مع العابدين، ولا يوحدونه مع الموحدين. وأمة (المجوس) منهم تستفرش الأمهات والبنات والأخوات؛ دع العمات والخالات، دينهم الزمر، وطعامهم الميتة، وشرابهم الخمر، ومعبودهم النار، ووليهم الشيطان، فهم أخبث بني آدم نحلة، وأرداهم مذهبا، وأسوأهم اعتقادا.
وأما (زنادقة الصابئة وملاحدة الفلاسفة) فلا يؤمنون بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه، ولا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، وليس للعالم عندهم رب فعال بالاختيار لما يريد قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، آمر، ناه، مرسل الرسل، ومنزل الكتب، ومثيب المحسن، ومعاقب المسيء، وليس عند نظارهم إلا تسعة أفلاك وعشرة عقول وأربعة أركان، وسلسلة ترتبت فيها الموجودات هي بسلسلة المجانين أشبه منها بمجوزات العقول. (وبالجملة) فدين الحنيفية الذي لا دين الله غيره بين هذه الأديان الباطلة التي لا دين في الأرض غيرها أخفى من السها تحت السحاب، وقد نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، فاطلع الله شمس الرسالة في حنادس تلك الظلم سراجا منيرا، وأنعم بها على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورا، وأشرقت الأرض بنورها أكمل الإشراق، وفاض ذلك النور حتى عم النواحي والآفاق واتسق قمر الهدى أتم الاتساق، وقام دين الله الحنيف على ساق، فلله الحمد الذي أنقذنا بمحمد صلى الله عليه وسلم من تلك الظلمات، وفتح لنا به باب الهدى فلا يغلق إلى يوم الميقات، وأرانا في نوره أهل الضلال وهم في ضلالهم يتخبطون، وفي سكرتهم يعمهون وفي جهالتهم يتقلبون وفي ريبهم يترددون، يؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت يؤمنون ويعدلون ولكن بربهم يعدلون، ويعلمون ولكن ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة وهم غافلون ويسجدون ولكن للصليب والوثن والشمس يسجدون، ويمكرون وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون {لَقَد مَنّ اللَهُ عَلى المُؤمِنينَ إِذ بَعَثَ فيهِم رَسولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلو عَلَيهِم آَياتِهِ وَيُزَكيهِم وَيُعَلِمُهُم الكِتابَ وَالحِكمَة وَإِن كانوا مِن قَبلُ لَفي ضَلالِ مُبين} {كَما أرسَلنا فيكُم رَسولاً مِنكُم يَتلوا عَليكُم آَياتِنا وَيُزَكيكُم وَيُعَلِمُكُم الكِتابَ وَالحِكمَة وَيُعَلِمُكُم ما لَم تَكونوا تَعلمون فاذكُروني أَذكُركُم وَاشكُروا لي وَلا تَكفُرون}.
الحمد لله الذي أغنانا بشريعته التي تدعو إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمر بالعدل والإحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، فله المنة والفضل على ما أنعم به علينا وآثرنا به على سائر الأمم، وإليه الرغبة أن يوزعنا شكر هذه النعمة، وأن يفتح لنا أبواب التوبة والمغفرة والرحمة، فأحب الوسائل إلى المحسن التوسل إليه بإحسانه والاعتراف له بأن الأمر كله محض فضله وامتنانه، فله علينا النعمة السابغة كما له علينا الحجة البالغة، نبوء له بنعمه علينا، ونبو بذنوبنا وخطايانا وجهلنا وظلمنا وإسرافنا في أمرنا فهذه بضاعتنا التي لدينا لم تبق لنا نعمه وحقوقها وذنوبنا حسنة نرجو بها الفوز بالثواب والتخلص من اليم العقاب، بل بعض ذلك يستنفد جميع حسناتنا، ويستوعب كل طاعتنا هذا لو خلصت من الشوائب، وكانت خالصة لوجهه واقعة على وفق أمره، وما هو والله إلا التعلق بأذيال عفوه وحسن الظن به، واللجأ منه إليه والاستعاذة به منه والاستكانة والتذلل بين يديه، ومد يد الفاقة والمسكنة إليه، بالسؤال والافتقار إليه في جميع الأحوال فمن أصابته نفحة من نفحات رحمته أو وقعت عليه نظرة من نظرات رأفته انتعش من بين الأموات وأناخت بفنائه وفود الخيرات، وترحلت عنه جيوش الهموم والغموم والحسرات.
وَإذا نَظَرَت إِِلىَّ نَظرَةَ راحِمِ ** في الدَهرِ يَوماً أَنَني لَسَعيد

.فصل: من حقوق الله رد الطاعنين على الرسول:

ومن بعض حقوق الله على عبده رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان وكان انتهى إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين فلم يصادف عنده ما يشفيه، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم أنه بضربه يداويه فسطا به ضربا وقال هذا هو الجواب قال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم: إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب فترقا وهذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب، فشمر المجيب ساعد العزم، ونهض على ساق الجد وقام لله قيام مستعين به مفوض إليه متكل عليه في موافقة مرضاته، ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى العجز والضعف، وقو أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة وإزاحة للعذر {لِيُهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَينة وَيَحيَى مَن حَيّ عَن بَينَة} والسيف إنما جاء منفذا للحجة، مقوما للمعاند، وحدا للجاحد، قال تعالى: {لَقَد أَرسَلنا بِالبَيناتِ وَأَنزَلنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالميزانَ لِيَقومَ الناسَ بِالقِسط وَأَنزَلنا الحَديدَ فيه بأَسٌ شَديد وَمنافِعُ لِِلناس وَلِيعلَمَ اللَهُ مَن يَنصُرَهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيب إِنّ اللَه قَوي عَزيز} فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف الماضي، شعر:
فَما هُوَ إِلاّ الوَحيُ أَوحَدَ مُرهَف ** يُقيمُ ضُباهُ أَخدَعي كُلُ مائِلٍ

فَهَذا شِفاءُ الداءِ مِن كُلِ عاقِلٍ ** وَهَذا دواءُ الداءِ مِن كُلِ جاهِلِ

وإلى الله الرغبة في التوفيق، فإنه الفاتح من الخير أبوابه والميسر له أسبابه.
وسميته: (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) وقسمته قسمين (القسم الأول): في أجوبة المسائل، القسم الثاني: في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بجميع أنواع الدلائل، فجاء بحمد الله ومنه وتوفيقه كتابا ممتعا معجبا، لا يسأم قاريه ولا يمل الناظر فيهن فهو كتاب يصلح للدنيا والآخرة، ولزيادة الإيمان، ولذة الإنسان، يعطيك ما شئت من أعلام النبوة وبراهين الرسالة، وبشارات الأنبياء بخاتمهم، واستخراج اسمه الصريح من كتبهم، وذكر نعته وصفته وسيرته من كتبهم، والتمييز بين صحيح الأديان وفاسدها وكيفية فسادها بعد استقامتها، وجملة من فضائح أهل الكتابين وما هم عليه، وأنهم أعظم الناس براءة من أنبيائهم، وإن نصوص أنبيائهم تشهد بكفرهم وضلالهم، وغير ذلك من نكت بديعة لا توجد في سواه، والله المستعان وعليه التكلان، فهو حسبنا ونعم الوكيل.

.القسم الأول: أجوبة المسائل:

.المسألة الأولى: ليست الرياسة منع وحدها لأهل الكتاب عن قبول الإسلام:

فنقول (أما المسألة الأولى) وهي قول السائل: (قد اشتهر عندكم بأن أهل الكتابين ما منعهم من الدخول في الإسلام إلا الرياسة والمأكلة لا غير) فكلام جاهل بما عند المسلمين وبما عند الكفار أما المسلمون فلم يقولوا أنه لم يمنع أهل الكتاب من الدخول في الإسلام إلا الرياسة والمأكلة لا غير، وإن قال هذا بعض عوامهم فلا يلزم جماعتهم، والممتنعون من الدخول في الإسلام من أهل الكتابين وغيرهم جزء يسير جدا بالإضافة إلى الداخلين فيه منهم؛ بل أكثر الأمم دخلوا في الإسلام طوعا ورغبة واختيارا لا كرها ولا اضطرارا؛ فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا إلى أهل الأرض وهم (خمسة أصناف) قد طبقوا الأرض: يهود، ونصارى، ومجوس، وصابئة، ومشركون. وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها إلى مغاربها.
فأما (اليهود) فأكثر ما كانوا باليمن وخيبر والمدينة وما حولها، وكانوا بأطراف الشام مستذلين مع النصارى، وكان منهم بأرض فارس فرقة مستذلة مع المجوس وكان منهم بأرض العرب فرقة وأعز ما كانوا بالمدينة وخيبر، وكان الله سبحانه قد قطعنهم في الأرض أمما وسلبهم الملك والعز وأما (النصارى) فكانوا طبق الأرض: فكانت الشام كلها للنصارى، وأرض المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك أرض مصر والحبشة والنوبة والجزيرة والموصل وأرض نجران وغيرها من البلاد وأما (المجوس) فهم أهل مملكة فارس وما اتصل بها وأما (الصابئة) فأهل حران وكثير من بلاد الروم وأما (المشركون) فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد الترك وما جاورها وأديان أهل الأرض لا تخرج عن هذه الأديان الخمسة، ودين الحنفاء لا يعرف فيهم البتة، وهذه الأديان الخمسة كلها للشيطان كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: الأديان ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان: وهذه الأديان الستة مذكورة في آية الفصل في قوله تعالى: {إِنّ الَّذَينَ آَمَنوا وَالَّذَينَ هادوا وَالصابِئينَ وَالنَصارَى وَالمَجوس وَالَّذَينَ أَشرَكوا إِنّ اللَهَ يَفصِلُ بَينَهُم يَومَ القِيامَة إِن اللَهَ عَلى كُلِ شَيءٍ شَهيد} فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استجاب له ولخلفائه بعده أكثر الأديان طوعا واختيارا، ولم يكره أحدا قد على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالا لأمر ربه سبحانه حيث يقول: {لا إِكراهَ في الدين قَد تَبَينَ الرُشدُ مِنَ الغَي} وهذا نفي في معنى النهي، أي لا تكرهوا أحدا على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول من يجوز أخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين، بل إما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة، وأن استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين له أنه لم يكره أحدا على دينه قط، وإنه إنما قاتل من قاتله: وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيما على هدنته لم ينقض عهده بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له كما قال تعالى: {فَما استَقاموا لَكُم فاستَقيموا لَهُم} ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمن على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقتل بعضهم، وقتل بعضهم وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدأهم بقتال حتى بدءوا هم بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك كما قصدوه يوم أحدن ويوم الخندق، ويوم بدر أيضا هم جاؤوا لقتاله ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم (والمقصود) أنه صلى الله عليه وسلم لم يكره أحدا على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناس في دينه اختيارا وطوعا فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى وأنه رسول الله حقا. فهؤلاء أهل اليمن كانوا على دين اليهودية أو أكثرهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا ا لله» وذكر الحديث، ثم دخلوا في الإسلام من غير رغبة ولا رهبة، وكذلك من أسلم من يهود المدينة وهم جماعة كثيرون غير عبد الله بن سلام مذكورون في كتب السير والمغازي لم يسلموا رغبة في الدنيا ولا رهبة من السيف بل أسلموا في حال حاجة المسلمين وكثرة أعدائهم ومحاربة أهل الأرض لهم من غير سوط ولا نوط؛ بل تحملوا معاداة أقربائهم وحرمانهم نفعهم بالمال والبدن مع ضعف شوكة المسلمين وقلة ذات أيديهم، فكان أحدهم يعادي يأباه وأمه وأهل بيته وعشيرته، ويخرج من الدنيا رغبة في الإسلام لا لرياسة ولا مال، بل ينخلع من الرياسة والمال ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم ولا يصرفه ذلك عن دينه. فإن كان كثير من الأحبار والرهبان والقسيسين ومن ذكره هذا السائل قد اختاروا الكفر فقد أسلم جمهور أهل الأرض من فرق الكفار ولم يبق إلا الأقل بالنسبة إلى من أسلم؛ فهؤلاء نصارى الشام كانوا ملء الشام ثم صاروا مسلمين إلا النادر، فصاروا في المسلمين كالشعرة السوداء في الثور الأبيض وكذلك المجوس كانت أمة لا يحصى عددهم إلا الله فأطبقوا على الإسلام لم يتخلف منهم إلا النادر، وصارت بلاهم بلاد إسلام، وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذلة وكذلك اليهود أسلم أكثرهم ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة مقطعة في البلاد فقول هذا الجاهل: إن هاتين الأمتين لا يحصى عددهم إلا الله كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. كذب ظاهر وبهت مبين، حتى لو كانوا كلهم قد أجمعوا على اختيار الكفر لكانوا في ذلك أسوة قوم نوح، وقد أقام فيهم ألف سنة غلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله ويريهم من الآيات ما يقيم حجة الله عليهم وقد أطبقوا على الكفر إلا قليلا منهم كما قال تعالى: {وما آمن معه إلا قليل} وهم كانوا أضعاف أضعاف هاتين الأمتين الكافرتين أهل الغضب وأهل الضلال، وعاد أطبقوا على الكفر وهم أمة عظيمة عقلاء حتى استؤصلوا بالعذاب، وثمود أطبقوا جميعهم على الكفر بعد رؤية الآية العظيمة التي يؤمن على مثلها البشر، ومع هذا فاختاروا الكفر على الإيمان، كما قال تعالى: {وَأَما ثَمودُ فَهَدَيناهُم فاستَحَبوا العَمى عَلى الهُدى} وقال تعالى: {وَعاداً وَثَمودَ وَقَد تَبَينَ لَكُم مِن مَساكِنِهِم وَزَيَنَ لَهُمُ الشَيطانُ أَعمالَهُم فَصَدَهُم عَنِ السَبيلِ وَكانوا مُستَبصِرينَ} فهاتان أمتان عظيمتان من أكبر الأمم قد أطبقتا على الكفر مع البصيرة فأمة الغضب والضلال إذ أطبقتا على الكفر فليس ذلك ببدع وهؤلاء قوم فرعون مع كثرتهم قد أطبقوا على جحد نبوة موسى مع تظاهر الآيات الباهرة آية بعد آية فلم يؤمن منهم إلا رجل واحد كان يكتم إيمانه: وأيضا فيقال للنصارى: هؤلاء اليهود مع كثرتهم في زمن المسيح حتى كانوا ملأ بلاد الشام كما قال تعالى: {وَأَورَثنا القَومَ الَّذَينَ كانوا يَستَضعِفونَ مَشارِقَ الأَرضِ وَمَغارِِبَها التَي بارَكنا فيها} وكانوا قد أطبقوا على تكذيب المسيح وجحدوا نبوته، وفيهم الأحبار والعباد والعلماء حتى آمن به الحواريون فإذا جاز على اليهود وفيهم الأحبار والعباد والزهاد وغيرهم الأطباق على جحد نبوة المسيح والكفر به مع ظهور آيات صدقه كالشمس جاز عليهم إنكار نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعلوم أن جواز ذلك على أمة الضلال الذين هم أضل من الأنعام، وهم النصارى أولى وأحرى، فهذا السؤال الذي أورده هذا السائل وارد بعينه في حق كل نبي كذبته أمة من الأمم، فإن صوب هذا السائل رأى تلك الأمم كلها فقد كفر بجميع الرسل، وإن قال أن الأنبياء كانوا على الحق وكانت تلك الأمم مع كثرتها ووفور عقولها على الباطل فلأن يكون المكذبون بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهم الأقلون الأذلون الأرذلون من هذه الطوائف على الباطل أولى وأحرى وأي أمة من الأمم اعتبرتها وجدت المصدقين بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جمهورها وأقلها وأراذلها هم الجاحدون لنبوته، فرقعة الإسلام قد اتسعت في مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف طبائعهم وأغراضهم وتباين مقاصدهم الأطباق على اتباع من يكذب على الله وعلى رسله وعلى العقل ويحل ما حرم الله ورسله ويحرم ما أحله الله ورسله ومعلوم أن الكاذب على الله في دعوى الرسالة وهو شر خلق الله وأفجرهم وأظلمهم وأكذبهم، ولا يشك من له أدنى عقل أن إطباق أكثر الأمم على متابعة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم وخروجهم عن ديارهم وأموالهم ومعاداتهم آباءهم وأبناءهم وعشائرهم في متابعته وبذلهم نفوسهم بين يديه من أمحل المحال، فتجويز اختيارهم الكفر بعد تبين الهدى على شرذمة قليلة حقيرة لها أغراض عديدة من هاتين الأمتين أولى من تجويز ذلك على المسلمين الذين أطبقوا مشارق الأرض ومغاربها، وهم أعقل الأمم وأكملها في جميع خصال الفضل.تهم آباءهم وأبناءهم وعشائرهم في متابعته وبذلهم نفوسهم بين يديه من أمحل المحال، فتجويز اختيارهم الكفر بعد تبين الهدى على شرذمة قليلة حقيرة لها أغراض عديدة من هاتين الأمتين أولى من تجويز ذلك على المسلمين الذين أطبقوا مشارق الأرض ومغاربها، وهم أعقل الأمم وأكملها في جميع خصال الفضل.
وأين عقول عباد العجل وعباد الصليب الذين أضحكوا سائر العقلاء على عقولهم ودلوهم على مبلغها بما قالوه في معبودهم من عقول المسلمين؟ وإذا جاز اتفاق أمة- فيها من قد ذكره هذا السائل- على ان رب العالمين وخالق السموات والأرضين نزل عن عرشه وكرسي عظمته ودخل في بطن امرأة في محل الحيض والطمث عدة شهور ثم خرج من فرجها طفلا يمص الثدي ويبكي، ويكبر شيئا فشيئا، ويأكل ويشرب ويبول، ويصح ويمرض، ويفرح ويحزن، ويلذ ويألم، ثم دبر حيلة على عدوه إبليس بأن مكن أعداءه اليهود من نفسه، فأمسكوه وساقوه إلى خشبتين يصلبونه عليهما، وهم يجرونه إلى الصلب، والأوباش والأراذل قدامه وخلفه وعن يمينه وعن يساره، وهو يستغيث ويبكي فقربوه من الخشبتين، ثم توجوه بتاج من الشوك، وأوجعوه صفعا، ثم حملوه على الصليب وسمروا يديه ورجليه وجعلوه بين لصين، وهو الذي اختار هذا كله لتتم له الحيلة على إبليس ليخلص آدم وسائر الأنبياء من سجنه، ففداهم بنفسه حتى خلصوا من سجن إبليس، وإذا جاز اتفاق هذه الأمة وفيهم الأحبار والرهبان والقسيسون والزهاد والعباد والفقهاء ومن ذكرتم على هذا القول في معبودهم وإلههم حتى قال قائل منهم وهو من أكابرهم عندهم: اليد الذي خلقت آدم هي التي باشرت المسامير ونالت الصلب، فكيف لا يجوز عليهم الاتفاق على تكذيب من جاء بتكفيرهم وتضليلهم، ونادى سرا وجهرا بكذبهم على الله وشتمهم له أقبح شتم، وكذبهم على المسيح، وتبديلهم دينه، وعاداهم وقاتلهم، وبرأهم من المسيح وبرأه منهم، وأخبر أنهم وقود النار وحصب جهنم، وعاداهم وقاتلهم، وبرأهم من المسيح وبرأه منهم، وأخبر أنهم وقود النار وحصب جهنم، فهذا أحد الأسباب التي اختاروا لأجلها الكفر على الإيمان وهو من أعظم الأسباب؛ فقولكم: (إن المسلمين يقولون أنهم لم يمنعهم من الدخول في الإسلام إلا الرياسة والمأكلة لا غير) كذب على المسلمين؛ بل الرياسة والمأكلة من جملة الأسباب المانعة لهم من الدخول في الدين، وقد ناظرنا نحن وغيرنا جماعة منهم فلما تبين لبعضهم فساد ما هم عليه قالوا: لو دخلنا في الإسلام لكنا من أقل المسلمين لا يأبه لنا، ونحن متحكمون في أهل ملتنا في أموالهم ومناصبهم ولنا بينهم أعظم الجاه وهل منع فرعون وقومه من اتباع موسى إلا ذلك؟.